فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الألوسي:

{قَدْ أَفْلَحَ} أي نجا من المكروه وظفر بما يرجوه {مَن تزكى} أي تطهر من الشرك بتذكره واتعاظه بالذكرى وحمله على ذلك مروي عن ابن عباس وغيره وأخرج البزار وابن مردويه عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في ذلك «من شهد أن لا إله إلا الله وخلع الانداد وشهد أني رسول الله» واعتبر بعضهم أمرين فقال أي تطهر من الكفر والمعصية وعليه يجوز أن يكون ما تقدم من باب الاقتصار على الأهم وقيل تزكى أي تكثر من التقوى والخشية من الزكاء وهو النما وقيل تطهر للصلاة وقيل آتي الزكاة وروى هذا عن أبي الأحوص وقتادة وجماعة.
{وَذَكَرَ اسم رَبّهِ} بلسانه وقلبه لا بلسانه مع غفلة القلب إذ مثل ذلك لا ثواب فيه فلا ينبغي أن يدخل فيما يترتب عليه الفلاح والذكر القلبي باستحضار اسمه تعالى في القلب وإن كان ممدوحاً بلا شبهة إلا إن أردته بخصوصه مما ذكر خلاف الظاهر وحكاه في (مجمع البيان) عن بعض وما روى عن ابن عباس من قوله أي ذكر معاده وموقفه بين يدي ربه عز وجل ظاهر فيه وفي اقحام لفظ اسم وذهب بعض الحنفية إلى أن المراد بهذا الذكر تكبيرة الافتتاح كأنه قيل وكبر للافتتاح.
{فصلى} أي الصلوات الخمس كما أخرجه ابن المنذر وغيره عن ابن عباس وروى ذلك في حديث مرفوع وقيل الصلاة المفروضة وما أمكن من النوافل واحتج بذلك على وجوب التكبيرة حيث نيط به الفلاح ووقع بين واجبين بل فرضين التزكي من الشرك والصلاة مع أن الاحتياط في العبادات واجب فلا يضر الاحتمال وعلى أن الافتتاح جائز بكل اسم من أسمائه عز وجل وهو ظاهر وعلى أن التكبيرة شرط لا ركن للعطف بالفاء وعطف الكل على الجزء كعطف العام على الخاص وإن جاز لا يكون بها مع أنه لو سلم صحته بتكلف فلابد من نكتة ليدعى وقوعه في الكلام المعجز فحيث لم تظهر لم يصح ادعاؤه وبناء الركنية عليه والانصاف أنه مع ما سمعت احتجاج ليس بالقوي وقيل هو خصوص بسم الله الرحمن الرحيم قبل الصلاة وليس بشيء وعن علي كرم الله تعالى وجهه {تزكى} أي تصدق صدقة الفطر {وذكر اسم ربه} كبر يوم العيد فصلى صلاة العيد وعن جماعة من السلف ما يقتضي ظاهره ذلك وتعقب بأن الصلاة مقدمة على الزكاة في القرآن وأن السورة مكية ولم يكن حينئذ عيد ولا فطر ورد بأن ذلك إذا ذكرت باسمها أما إذا ذكرت بفعل فتقديمها غير مطرد ومنه {فلا صدق ولا صلى} [القيامة: 31] على أنه يجوز أن تكون مخالفة العادة هاهنا للإرشاد إلى أن هذه الزكاة المقدمة قولاً ينبغي تقديمها فعلاً على الصلاة ولهذا كانوا يخرجونها قبل أن يصلوا العيد كما جاء في الآثار وكون السورة مكية غير مجمع عليه وعلى القول بمكيتها الذي هو الأصح يكون ذلك مما تأخر حكمه عن نزوله وأقول يجوز أن يقال: {تزكى} أي تطهر من الشرك بأن آمن من بقلبه وذكر اسم ربه أي قال لا إله إلا الله فصلي أي الصلاة المفروضة وأخرج ابن أبي حاتم وابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس ما يؤيده فيكون {تزكى} إشارة إلى التصديق بالجنان وذكر اسم ربه إلى النطق باللسان وصل إلى العمل بالأركان لما أن الصلاة عماد الدين وأفضل الأعمال البدنية وناهية عن الفحشاء والمنكر فلا بدع أن تذكر فيراد جمع الأعمال البدنية والعبادات القالبية وقد يقال اقتصر على ذكر الصلاة لأن الفرائض والواجبات البدنية لم تكن تامة يوم نزول السورة وكانت الصلاة أهم ما نزل إن كان نزل غيرها وقد روى عطاء عن ابن عباس ويزيد النحوي عن عكرمة والحسن بن أبي الحسن إن أول ما نزل من القرآن بمكة {اقرأ باسم رَبّكَ} [العلق: 1] ثم {ن} ثم {المزمل} ثم {المدثر} ثم {تُبْتُ} ثم {إِذَا الشمس كُوّرَتْ} [التكوير: 1] ثم {سَبِّحِ اسم رَبّكَ} ثم إن من رادف لا إله إلا الله محمد رسول الله وكان ذكر الله تعالى المطلوب هو مجموع الجملتين فلا بعد في أن يراد من ذكره تعالى في الآية وإذا اعتبر الإتيان باسمه عز وجل في الجملة الثانية على الوجه الذي أتى به ذكراً له تعالى كان أمر الإرادة أقرب وهذا الوجه لا يخلو عن حسن وكلمة {قد} لما أنه عند الاخبار بسوء حال المتجنب عن الذكر في الآخرة يتوقع السامع الاخبار بحسن حال المتذكر فيها ولا يبعد أن تكون الجملة مستأنفة استئنافاً جواباً لسؤال نشأ عن بيان حال المتجنب والسكوت عن حال المتذكر الذي يخشى فكأنه قيل ما حال من تذكر فقيل قد أفلح إلى آخره وكان الظاهر قد أفلح من تذكر إلا أنه وضع من تزكى إلى آخره موضع من تذكر إشارة إلى بيان المتذكر بسماته وقوله تعالى: {بَلْ تؤثرون الحياة الدنيا} إضراب عن مقدر ينساق إليه الكلام كأنه قيل إثر بيان ما يؤدي إلى الفلاح {لاَ تَفْعَلُونَ ذلك بَلْ تؤثرون} إلخ ولعله مراد من قال إنه إضراب عن {قَدْ أَفْلَحَ} [الأعلى: 14] الخ.
وقيل إضراب عن بيان حال المتذكر والمتجنب إلى بيان أنه لا ينفع هذا البيان وأضعافه المتمردين على وجه يتضمن بيان سبب عدم النفع وهو ايثار الحياة الدنيا والخطاب على هذا للكفرة الأشقين من أهل مكة وعلى الأول يحتمل أن يكون لهم فالمراد بإيثار الحياة الدنيا هو الرضاء والاطمئنان بها والإعراض عن الآخرة بالكلية كما في قوله تعالى: {إَنَّ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا وَرَضُواْ بالحياة الدنيا واطمأنوا بِهَا} [يونس: 7] الآية ويحتمل أن يكون لجميع الناس على سبيل التغليب فالمراد بإيثارها ما هو أعم مما ذكر وما لا يخلو عنه الناس غالباً من ترجيح جانب الدنيا علي الآخرة في السعي وترتيب المبادئ وعن ابن مسعود ما يقتضيه والالتفات على الأول لتشديد التوبيخ وعلى الثاني كذلك في حق الكفرة ولتشديد العتاب في حق لمسلمين وقيل لا التفات لأنه بتقدير قل.
وقرأ عبد الله وأبو رجاء والحسن والجحدري وأبو حيوة وابن أبي عبلة وأبو عمرو والزعفراني وابن مقسم {يؤثرون} بياء الغيبة.
وقوله تعالى: {والآخرة خَيْرٌ وأبقى} حال من فاعل {تؤثرون} مؤكد للتوبيخ والعتاب أي تؤثرونها على الآخرة والحال أن الآخرة خير في نفسها لما أن نعيمها مع كونها في غاية ما يكون من اللذة خالص عن شائبة أبدى لا انصرام له وعدم التعرض لبيان تكدر نعيم الدنيا بالمنغصات وانقطاعه عما قليل لغاية الظهور.
{إِنَّ هَذَا} إشارة على ما أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن زيد إلى قوله تعالى: {والاخرة خير وأبقى} [الأعلى: 17] وروى ذلك عن قتادة وقال غير واحد إشارة إلى ما ذكر من قوله سبحانه: {قد أفلح من تزكى} [الأعلى: 14] إلخ وسيأتي إن شاء الله تعالى في الحديث ما يشهد له.
وقال الضحاك إشارة إلى القرآن فالآية كقوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَفِى زُبُرِ الاولين} وعن ابن عباس وعكرمة والسدي إشارة إلى ما تضمنته السور جميعاً وفيه بعد.
{لَفِى الصحف الأولى} أي ثابت فيها معناه وقرأ الأعمش وهرون وعصمة كلاهما عن أبي عمرو بسكون الحاء وكذا فيما بعد وهي لغة تميم على ما في اللوامح.
{صُحُفِ إبراهيم وموسى} بدل من {الصحف الأولى} [الأعلى: 18] وفي إبهامها ووصفها بالقدم ثم بيانها وتفسيرها من تفخيم شأنها ما لا يخفى وكانت صحف إبراهيم عشرة وكذا صحف موسى عليه السلام والمراد بها ما عدا التوراة.
أخرج عبد بن حميد وابن مردويه وابن عساكر عن أبي ذر قال: «قلت يا رسول الله كم أنزل الله تعالى من كتاب قال مائة كتابة وأربعة كتب أنزل على شيث خمسين صحيفة وعلى إدريس ثلاثين صحيفة وعلى إبراهيم عشر صحائف وعلى موسى قبل التوراة عشر صحائف وأنزل التوراة والإنجيل والزبور والفرقان قلت يا رسول الله فما كانت صحف إبراهيم قال أمثال كلها أيها الملك المتسلط على المبتلي المغرور لم أبعثك لتجمع الدنيا بعضها إلى بعض ولكن بعثتك لترد عني دعوة المظلوم فإني لا أردها ولو كانت من كافر وعلى العاقل ما لم يكن مغلوباً على عقله أن يكون له ثلاث ساعات ساعة يناجي فيها ربه وساعة يحاسب فيها نفسه ويتذكر فيما صنع وساعة يخلو فيها لحاجته من الحلال فإن في هذه الساعة عوناً لتلك الساعات واجتماعاً للقلوب وتفريغاً لها وعلى العاقل أن يكون بصيراً بزمانه مقبلاً على شأنه حافظاً للسانه فإن من حسب كلامه من عمله أقل الكلام إلا فيما يعنيه وعلى العاقل أن يكون طالباً لثلاث مرمة لمعاش أو تزود لمعاد أو تلذذ في غير محرم قلت يا رسول الله فما كانت صحف موسى قال كانت عبرا كلها عجبت لمن أيقن بالموت ثم يفرح ولمن أيقن بالنار ثم يضحك ولمن يرى الدنيا وتقلبها بأهلها ثم يطمئن إليها ولمن أيقن بالقدر ثم يضغب ولمن أيقن بالحساب ثم لا يعمل قلت يا رسول الله هل أنزل عليك شيء مما كان في صحف إبراهيم وموسى قال يا أبا ذكر نعم {قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى بل تؤثرون الحياة الدنيا والآخرة خير وأبقى} [الأعلى: 14-17]».
والله تعالى أعلم بصحة الحديث.
وقرأ أبو رجاء {إبرهم} بحذف الألف والياء وبالهاء مفتوحة ومكسورة وعبد الرحمن بن أبي بكرة بكسرها لا غير وقرأ أبو موسى الأشعري وابن الزبير {إبراهام} بالغين؟؟ في كل القرآن وقرأ مالك بن دينار {إبراهم} بألف وفتح الهاء وبغير ياء وجاء كما قال ابن خالويه {إبرهم} بضم الهاء بلا ألف ولا ياء وهذا من تصرفات العرب في الأسماء الأعجمية فإن براهيم على الصحيح منها وحكى الكرماني في عجائبه أنه اسم عربي مشتق من البرهمة وهي شدة النظر ونسبه قد تقدم وكذا نسب موسى صلى الله عليه وسلم. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تزكى (14)}
استئناف بياني لأن ذكر {من يخشى} [الأعلى: 10] وذكر {الأشقى} [الأعلى: 11] يثير استشراف السامع لمعرفة أثر ذلك فابتدئ بوصف أثر الشقاوة فوصف {الأشقى} بأنه {يصلى النار الكبرى} [الأعلى: 12] وأخر ذكر ثواب الأتقى تقديماً للأهمّ في الغرض وهو بيان جزاء الأشقى الذي يتجنب الذكرى وبقي السامع ينتظر أن يعلم جزاء من يخشى ويتذكر.
فلما وفي حق الموعظة والترهيبة استؤنف الكلام لبيان المثوبة والترغيب.
فالمراد بـ: {من تزكى} هنا عين المراد بـ: (من يخشى ويذكر) فقد عرف هنا بأنه الذي ذكر اسم ربه، فلا جرم أن ذكر اسم ربه هو التذكر بالذكرى، فالتذكر هو غاية الذكرى المأمور بها الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {فذكر} [الأعلى: 9].
وقد جُمعت أنواع الخير في قوله: {قد أفلح} فإن الفلاح نجاح المرء فيما يطمح إليه فهو يجمع معنيي الفوز والنفع وذلك هو الظفر بالمبتغى من الخير، وتقدم في قوله تعالى: {وأولئك هم المفلحون} في البقرة (5).
والإِتيان بفعل المضي في قوله: {أفلح} للتنبيه على المحقق وقوعه من الآخرة، واقترانه بحرف {قد} لتحقيقه وتثنيته كما في قوله تعالى: {قد أفلح المؤمنون} [المؤمنون: 1] وقوله: {قد أفلح من زكاها} [الشمس: 9] لأن الكلام موجه إلى الأشقَيْنَ الذين تجنبوا الذكرى إثارة لهمتهم في الإلتحاق بالذين خشوا فأفلحوا.
ومعنى {تزكى}: عالج أن يكون زكياً، أي بذل استطاعته في تطهير نفسه وتزكيتها كما قال تعالى: {قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها} [الشمس: 9 10].
فمادة التفعل للتكلف وبذل الجهد، وأصل ذلك هو التوحيدُ والاستعداد للأعمال الصالحة التي جاء بها الإسلام ويجيء بها، فيشمل زكاة الأموال.
أخرج البزار عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {قد أفلح من تزكى} قال: «من شهد أن لا إله إلا الله، وخلع الأنداد، وشهد أني رسول الله، {وذكر اسم ربه فصلى} قال: هي الصلوات الخمس والمحافظة عليها والاهتمام بها»، وهو قول ابن عباس وعطاء وعكرمة وقتادة.
وقدم التزكّي على ذكر الله والصلاةِ لأنه أصل العمل بذلك كله فإنه إذا تطهرت النفس أشرقت فيها أنوار الهداية فعُلمت منافعها وأكثرت من الإِقبال عليها فالتزكية: الارتياض على قبول الخير والمراد تزكى بالإيمان.
وفعل {ذكر اسم ربه} يجوز أن يكون من الذّكر اللساني الذي هو بكسر الذال فيكون كلمة {اسم ربه} مراداً بها ذكر أسماء الله بالتعظم مثل قول لا إله إلا الله، وقول الله أكبر، وسبحان الله، ونحو ذلك على ما تقدم في قوله: {سبح اسم ربك الأعلى} [الأعلى: 1].
ويجوز أن يكون من الذُّكر بضم الذال وهو حضور الشيء في النفس الذاكرة والمفكرة فتكون كلمة {اسم} مقحمة لتدل على شأن الله وصفات عظمته فإن أسماء الله أوصاف كمال.
وتفريع {فصلى} على {ذكر اسم ربه} على كلا الوجهين لأن الذكر بمعنييه يبعث الذاكر على تعظيم الله تعالى والتقرب إليه بالصلاة التي هي خضوع وثناء.
وقد رتبت هذه الخصال الثلاث على الآية على ترتيب تولدها.
فأصلها: إزالة الخباثة النفسية من عقائد باطلة وحديث النفس بالمضمرات الفاسدة وهو المشار إليه بقوله: {تزكى}، ثم استحضارُ معرفة الله بصفات كماله وحكمته ليخافه ويرجوه وهو المشار بقوله: {وذكر اسم ربه} ثم الإِقبالُ على طاعته وعبادته وهو المشار إليه بقوله: {فصلى} والصلاةُ تشير إلى العبادة وهي في ذاتها طاعة وامتثال يأتي بعده ما يشرع من الأعمال قال تعالى: {إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر اللَّه أكبر} [العنكبوت: 45].
{بَلْ تؤثرون الْحَيَاةَ الدنيا (16)}
قرأ الجمهور {تؤثرون} بمثناة فوقية بصيغة الخطاب، والخطاب موجه للمشركين بقرينة السياق وهو التفات.
وقرأه أبو عمرو وحدَه بالمثناة التحتية على طريقة الغيبة عائداً إلى {الأشقى الذي يصلى النار الكبرى} [الأعلى: 11، 12].
وحرف {بَل} معناه الجامع هو الإضراب، أي انصراف القول أو الحكم إلى ما يأتي بعد {بل}؛ فهو إذا عطف المفردات كان الإضراب إبطالاً للمعطوف عليه: لغلط في ذكر المعطوف أو للاحتراز عنه فذلك انصراف عن الحكم.
وإذا عطف الجمل فعطفه عطف كلام على كلام وهو عطف لفظي مجرد عن التشريك في الحكم ويقع على وجهين، فتارة يقصد إبطال معنى الكلام نحو قوله تعالى: {أم يقولون به جنة بل جاءهم بالحق} [المؤمنون: 70] فهو انصراف في الحُكم، وتارة يقصد مجرد التنقل من خبر إلى آخر مع عدم إبطال الأول نحو قوله تعالى: {ولدينا كتاب ينطق بالحق وهم لا يظلمون بل قلوبهم في غمرة من هذا} [المؤمنون: 62، 63].
فتكون {بل} بمنزلة قولهم (دع هذا) فهذا انصراف قولي.
ويعرف أحد الإضرابين بالقرائن والسياق.
و{بل} هنا عاطفة جملة عطفاً صُورياً فيجوز أن تكون لمجرد الانتقال من ذكر المنتفعين بالذكرى والمتجنبين لها، إلى ذكر سبب إعراض المتجنبين وهم الأشْقَون بأنَّ السبب إيثارهم الحياة الدنيا، وذلك على قراءة أبي عمرو ظاهر، وأما على قراءة الجمهور فهو إضراب عن حكاية أحوال الفريقين بالانتقال إلى توبيخ أحد الفريقين وهو الفريق الأشقى فالخطاب موجه إليهم على طريقة الالتفات لتجديد نشاط السامع لكي لا تنقضي السورة كلها في الإخبار عنهم بطريق الغيبة.
ويجوز أن يكون الإضراب إبطالاً لما تضمنه قوله: {قد أفلح من تزكى} [الأعلى: 14] من التعريض للذين شَقُوا بتحريضهم على طلب الفلاح لأنفسهم ليلتحقوا بالذين يخشون ويتزكّون ليبطل أن يكونوا مظنة تحصيل الفلاح.
والمعنى: أنهم بُعداء عن أن يظنّ بهم التنافس في طلب الفلاح لأنهم يؤثرون الحياة الدنيا، فالمعنى: بل أنتم تؤثرون منافع الدنيا علي حظوظ الآخرة، وهذا كما يقول الناصح شخصاً يظن أنه لا ينتصح (لقد نصحتك وما أظنك تفعل).
ويجيء فيه الوجهان المتقدمان من الخطاب والغيبة على القراءتين.
والإِيثار: اختيار شيء من بين متعدد.
والمعنى: تؤثرون الحياة الدنيا بعنايتكم واهتمامكم.
ولم يذكر المؤثَر عليه لأن الحياة الدنيا تدل عليه، أي لا تتأملون فيما عدَا حياتكم هذه ولا تتأمّلون في حياة ثآنية، فالمشركون لا يؤمنون بالآخرة وإذا ذُكِّروا بالحياة الآخرة وأخبروا بها لم يُعيروا سمعهم ذلك وجعلوا ذلك من الكلام الباطل وهذا مورد التوبيخ.
واعلم أنّ للمؤمنين حظاً من هذه الموعظة على طول الدهر، وذلك حظ مناسب لمقدار ما يفرِّط فيه أحدهم مما ينجيه في الآخرة إيثاراً لما يجتنيه من منافع الدنيا التي تجر إليه تَبِعةً في الآخرة على حسب ما جاءت به الشريعة، فأما الاستكثار من منافع الدنيا مع عدم إهمال أسباب النجاة في الآخرة فذلك مَيدانٌ للهمم وليس ذلك بمحل ذم قال تعالى: {وابتغ فيما آتاك اللَّه الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا} [القصص: 77].
وجملة: {والآخرة خير وأبقى} عطف على جملة التوبيخ عطف الخبر على الإنشاء لأن هذا الخبر يزيد إنشاءَ التوبيخ توجيهاً وتأييداً بأنهم في إعراضهم عن النظر في دلائل حياة آخرة قد أعرضوا عما هو خير وأبقى.
و{أبقى}: اسم تفضيل، أي أطول بقاءً، وفي حديث النهي عن جَرِّ الإزار «وليكن إلى الكعبين فإنه أتقَى وأبقى».
{إِنَّ هَذَا لَفِي الصحف الأولى (18)}
تذييل للكلام وتنويه به بأنه من الكلام النافع الثابت في كتب إبراهيم وموسى عليهما السلام، قصد به الإبلاغ للمشركين الذين كانوا يعرفون رسالة إبراهيم ورسالة موسى، ولذلك أكّد هذا الخبر بـ: {إنَّ} ولام الابتداء لأنه مسوق إلى المنكرين.
والإِشارة بكلمة {هذا} إلى مجموع قوله: {قد أفلح من تزكى إلى قوله وأبقى} [الأعلى: 14 17] فإن ما قَبْل ذلك من أول السورة إلى قوله: {قد أفلح من تزكى} [الأعلى: 14]، ليس مما ثَبت معناه في صحف إبراهيم وموسى عليهما السلام.
روى ابن مردويه والآجُري عن أبي ذر قال: «قلت يا رسول الله هل أُنزل عليك شيء مما كان في صحف إبراهيم وموسى؟ قال: نعم {قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى بل تؤثرون الحياة الدنيا والأخرة خير وأبقى} [الأعلى: 14-17]».
ولم أقف على مرتبة هذا الحديث.
ومعنى الظرفية من قوله: {لفي الصحف} أن مماثله في المعنى مكتوب في الصحف الأولى، فأطلقت الصحف على ما هو مكتوب فيها على وجه المجاز المرسل كما في قوله تعالى: {وقالوا ربنا عجل لنا قطنا} [ص: 16]، أي ما في قِطِّنا وهو صك الأعمال.
و{الصحف}: جمع صحيفة على غير قياس لأن قياس جمعه صحائف، ولكنه مع كونه غير مقيس هو الأفصح كما قالوا: سُفُن في جمع سفينة، ووجه جمع الصحف أن إبراهيم كانت له صحف وأن موسى كانت له صحف كثيرة وهي مجموع صحف أسفار التوراة.
وجاء نظم الكلام على أسلوب الإِجمال والتفصيل ليكون لهذا الخبر مزيد تقرير في أذهان الناس فقوله: {صحف إبراهيم وموسى} بدل من {الصحف الأولى}.
و{الأولى}: وصف لصُحف الذي هو جمع تكسير فله حكم التأنيث.
و{الأولى} صيغة تفضيل.
واختلف في الحروف الأصلية للفظ أوّل فقيل: حروفه الأصول همزة فواو (مكررة) فلام ذكره في (اللسان) فيكون وزن أول: أَأَوَل، فقلبت الهمزة الثانية واواً وأدغمت في الواو.
وقيل: أُصوله: وَاوَان ولام وأن الهمزة التي في أوله مزيدة فوزن أول: أفعل وإدغام أحدى الواوين ظاهر.
وقيل: حروفه الأصلية واو وهمزة ولام فأصل أول أوْ ألْ بوزن أفعل قلبت الهمزة التي بعد الواو واواً وأدغما.
و{الأولى}: مؤنث أفعل من هذه المادة فإما أن نقول: أصلها أُوْلى سكنت الواو سكوناً ميتاً لوقوعها إثر ضمة، أو أصلها: وُوْلَى بواو مضمومة في أوله وسكنت الواو الثانية أيضًا، أو أصلها: وُألَى بواو مضمومة ثم همزة ساكنة فوقع فيه قلب، فقيل: أولى فوزنها على هذا عُفْلَى.
والمراد بالأولية في وصف الصحف سبق الزمان بالنسبة إلى القرآن لا التي لم يسبقها غيرها لأنه قد روي أن بعض الرسل قبل إبراهيم أنزلت عليه صحف فهو كوصف {عاد بالأولى} في قوله: {وأنه أهلك عاداً الأولى} [النجم: 50] وقوله تعالى: {هذا نذير من النذر الأولى} [النجم: 56] وفي حديث البخاري: «إنَّ مما أدرك الناسُ من كلام النبوءة الأولى إذَا لم تستح فاصنع ما شئت».
وأخرج عبدُ بن حميد وابن مردويه وابن عساكر وأبو بكر الآجُري عن أبي ذرّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أن صحف إبراهيم كانت عشر صحائف». اهـ.